هل لولي الأمر حق إلزام رعيته بالعمل برأي مخصوص من جملة آراء المجتهدين في مسألة ، وذلك تبعًا لما رأى في ذلك من المصلحة ؟

كتبه : أنس أحمد لالا ـ جزيرة ريونيون ـ فرنسا

-
بسم الله الرحمن الرحيم .
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمَّد خاتم الأنبياء والمرسلين وعلى آله وأصحابه أجمعين
.

-
إن تساءل أحد: لم هذا السؤال؟

فالجواب أن خذ مثلا مسألة تزويج الأب بنته البالغة والباكرة برجل كفء بغير استئذانها: يجوز هذا عند المالكية والشوافع والحنابلة (وإن كان خلاف المستحب) ويصح النكاح؛ ولا يجوز هذا عند الأحناف ويبقى  النكاح معلقًا (في رأيٍ). وللاختلاف في المسألة مساغ، كما هو معروف في موضعه. فهل لولي الأمر حق إلزام رعيته (حتى منهم المالكية والشوافع والحنابلة، الذين يعتقدون خلافه) أن لا يعملوا في هذه المسألة إلا بقول الأحناف، وذلك تبعًا لما يظنه من المصلحة العامة بالنسبة لحال الرعية؟ وهل يجب على الرعية طاعته في ذلك؟
وهكذا، يكون بعض البيوع
مثل بيع عشرة أطنان من الحديد بعشرين طن من الحديد:  حلالا لدى بعض المجتهدين وحرامًا لدى البعض الآخر: فهل يمكن لِأمير دار الإسلام منع رعيته من العمل بالرأي الفلاني في ما يتعلق بهذه المعاملات؟

-
من المعلوم المقرر أن لولي الأمر أن يقنن في مجال العفو (أي ما لم يرد فيه شيء في القرآن ولا في السنة، ولم ينعقد فيه إجماع من فقهاء الأمة)، فيقيد بعض المباحات، وذلك لمصلحة عامة راجحة معتبرة في الشرع.
وأوضح مثال لذلك هو قوانين تنظيم المرور في الشوارع: قيدت ما كان من الإباحة الأصلية، فألزمت الجميع بالسير على الجانب الأيمن من الشوارع، وذلك لمصلحة سلامة الأبدان والأموال.
وهناك أمثلة أخرى من هذا القبيل، مثل منع ذبح اللحم في بعض الأيام تقليلًا للاستهلاك منه؛ أو مثل منع زراعة محصولٍ معينٍ بأكثر من مقدار محدد إبقاءً لزراعة المحاصيل الغذائية؛ وغير ذلك (انظر ما كتبه القرضاوي في كتابه: مركز المرأة، صـ98-99).

-
ولكن ما ذا عن الأمور التي ورد فيها قرآن أو حديث، ولكن اختلف المجتهدون في الحكم المستنبط منه؟ فهل لولي الأمر حق إلزام جميع رعيته بالعمل برأي مخصوص من جملة الآراء الموجودة في مسألةٍ معينة، ومنعهم من العمل برأي آخر في المسألة، وذلك تبعًا لما يراه هذا الأمير مصلحةً شرعيةً عامةً؟

فمن المعلوم أنه ليست جميعُ أحكام جميعِ المسائل مُجمَعًا عليها بين المجتهدين؛ بل
ــ هناك مسائل أجمعوا على أحكامها؛
ــ وهناك مسائل اختلفوا في أحكامها اختلافَ تضادّ، وذلك منذ عهد السلف الصالح؛
ــ
وهناك مسائل يكون جميع الطرق المنقولة فيها صحيحةً وصوابًا، ويقال عنها: "فيها اختلاف تنوُّع" / "في السُنَّة وُسْعَة".

وهذه أمثلة لمسائل مختلف في أحكامها اختلافَ تنوُّع:

ــ الترجيع أوعدم الترجيع في الأذان؛
ـــ عدد تكبيرات صلاة العيد؛
ـــ صيغ التشهد المختلفة؛
ـــ وغيرها.

فهل يشرع لِأمير دار الإسلام أن يلزم جميع رعيته العمل بطريق مخصوص من جملة الطرق الواردة في مسألةٍ ورد فيها اختلافُ تنوُّع؟ وذلك تبعًا لما يظنه هذا الأمير مصلحةً شرعيةً عامةً؟

فمثلًا هل له أن يلزم جميع المؤذنين في بلاده بالعمل بقول عدم الترجيع في الأذان، وذلك بقصد توحيد المسلمين؟ أو أن يلزم جميع أئمة مساجد بلاده بالعمل بالقول الفلاني في عدد تكبيرات صلاة العيد؟

-
ثم من جملة المسائل المختلف في أحكامها اختلافَ تضادّ:

ــ هناك مسائل وضح فيها أيّ الآراء خطأ؛
ــ وهناك مسائل يكون الرأي الصواب فيها واحدًا ولكن للاختلاف في المسألة مساغ (وهي التي لا ينقض فيها حكم القاضي).

وفي هذا النوع الأخير من المسائل، نجد (بسبب الخلاف القديم) أنّ من الأعمال:
ــــ ما هو مباح لدى البعض من المجتهدين ، وحرام أو مكروه تحريمًا عند آخر: مثل شرب قدر غير مسكر من النبيذ المصنوع من غير العنب والتمر والذي يسكر كثيره، وهذا للتقوِّي؛ ومثل لبس الرجل ثوبًا أحمر خالصًا؛ ومثل بيع عشرة أطنان من الحديد بعشرين طن من الحديد؛
ــــ ما هو مشروع لدى البعض من المجتهدين، غير مشروع عند آخر: مثل إجبار الرجل بنته البالغة البكر على تزوج رجل كفء؛
ــــ ما هو مباح لدى البعض من المجتهدين، واجب عند آخر: مثل ختان النساء بالإشمام لا بالإنهاك: فهذا غير واجب ولا مستحبّ لدى علماء حنفيين، وواجب عند الشوافع؛
ــــ ما هو مندوب لدى البعض من المجتهدين، واجب عند آخر: مثل لبس المسلمة النقاب على وجهها أمام الرجال الأجانب؛
ــــ ما هو مندوب لدى البعض من المجتهدين، مكروه تحريمًا عند آخر: مثل أداء الرجل ركعتين إذا دخل المسجد والإمام يخطب؛
ــــ ما هو واجب لدى البعض من المجتهدين، مكروه تحريمًا عند آخر: مثل تلاوة المقتدي الفاتحة في ركعة جهرية...

ففي الصور الخمس الأولى، إن أعلن أمير دار الإسلام بإنفاذ الرأي الأول في بلاده، لم يزعج القائلين بالرأي الثاني (غير أنه قد يزعجهم أيضًا، بما أنه يمكن للأمير مثلًا أن يقيّد ما ليس إلا مباحًا في نظره، وهو واجب في نظرهم)...

وأما إن أعلن أمير دار الإسلام بإنفاذ الرأي الثاني، فقد يزعج القائلين بالرأي الأول، لأنهم حينئذ لا يعودون يتمكنون من العمل بما يعتقدونه مباحًا أو مشروعًا أو مندوبًا...

فهل يشرع مع ذلك لِأمير دار الإسلام أن يلزم جميع رعيته العمل برأي مخصوص من جملة الآراء الموجودة في مسألةٍ مختلَف فيها منذ عهد السلف الصالح اختلافَ تضادّ، ولكن يكون للاختلاف فيها مساغ؟ وذلك تبعًا لما يظنه هذا الأمير مصلحةً شرعيةً عامةً؟ وهل يلزم رعيتَه إطاعتُه في ذلك؟

فمثلًا هل للأمير أن يَمْنَعَ مِن إجبار بناتهم البالغات الأبكار على التزوج برجل كفء (حسبًا لرأي الأحناف، الذين يعتقدون هذا الفعل غير مشروع) جميعَ آباء رعيته، حتى منهم المالكية والشوافع والحنابلة، الذين يعتقدون هذا الفعل مشروعًا (ولو مكروهًا كراهة تنزيه)؟

وهل للأمير حق إلزام جميع المسلمات الساكنات في داره: العمل برأي وجوب لبس النقاب، فيَمْنَعَهن من العمل برأي جواز سفور وجه المرأة؟

وهل للأمير أن يَمْنَعَ جميعَ رعيته من بعض البيوع (مثل بيع عشرة أطنان من الحديد بعشرين طن من الحديد) التي تكون جائزة لدى بعض المجتهدين وحرامًا لدى البعض الآخرين: فهل يمكن لِأمير دار الإسلام منع رعيته من العمل بالرأي الفلاني في ما يتعلق بهذه المعاملات، حتى منهم الذين يعتقدونها مشروعةً؟

وفوق ذلك : هل يشرع لِأمير دار الإسلام إلزامُ جميع رعيته بفعلٍ لا يكون مشروعًا إلا حسبًا لأَحَد من الآراء الموجودة في المسألة ، بينما يعتقده بعض رعيته غير مشروع وذلك حسبًا لرأي آخر؟ وهل يلزم رعيتَه إطاعتُه في ذلك؟

فمثلًا هل له أن يلزم بإنهاء شهر رمضان، محتجًا بأن هلال شوال قد رُئِيَ في بلاد أخرى (حسبًا لرأي الأحناف المتقدمين)، جميعَ رعيته، حتى منهم الشوافع، الذين يقولون باعتبار اختلاف المطالع وعدم اعتبار رؤية الهلال في بلاد لبلاد أخرى؟

وهل له أن يلزم بالهدنة مع العدو لمدة عشرين سَنَةً (حسبًا لرأي الأحناف والحنابلة ، الذين يعتقدون عقْد الهدنة لهذه المدة مشروعًا) جميعَ رعيته، حتى الشوافع منهم، الذين يعتقدون عقْد الهدنة لمدة أكثر من عشر سنوات: غير مشروع؟

-
ست ملاحظات حول السؤال المطروح في هذا البحث؛ وهو: هل يشرع لِأمير دار الإسلام أن يلزم جميع رعيته العمل برأي مخصوص من جملة الآراء الموجودة في مسألةٍ مختلَف فيها منذ عهد السلف الصالح اختلافَ تضادّ، ولكن يكون للاختلاف فيها مساغ؟ وذلك تبعًا لما يظنه هذا الأمير مصلحةً شرعيةً عامةً؟ وهل يلزم رعيتَه إطاعتُه في ذلك؟

الملاحظة الأولى: إنما يتوجه هذا السؤال بالنسبة للأمير (أي صاحب السلطة التنفيذية)، وليس بالنسبة للمفتي المجر ، ولا للقاضي المجرد (أي صاحب السلطة القضائية):

أَمّا المفتي المجرد، فمن القواعد الثابتة والمعروفة أن فتوى المفتي مُخبِرة فقط، وأنّ الذي يكون مُجبِرًا هو قضاء القاضي. فليس للمفتي المجرد إلزام المستفتي بفعل يعتقده المستفتي غيرَ مشروع، وكان للاختلاف في المسألة مساغ.

وأما القاضي، فلا خلاف في أن حكمه يرفع الخلاف في حق المَقضيّ عليه. وأما المَقضيّ له، فاختلف فيه صاحبا أبي حنيفة: قال الكاساني: "(...) فجملة الكلام فيه أنّ قضاء القاضي ينفذ على المَقضيّ عليه في محل الاجتهاد ، سواء كان المَقضيّ عليه عاميًّا مقلدًا أوفقيهًا مجتهدًا يخالف رأيُه رأيَ القاضي، بلا خلاف. (...) وأمّا قضاؤه للمَقضيّ له بما يخالف رأيَه: هل ينفذ؟ قال أبو يوسف: لا ينفذ! وقال محمد: ينفذ! (...)" (بدائع الصنائع 7/5-6). وإن ابن تيمية مع محمد بن الحسن في هذه المسألة (انظر مجموع الفتاوى 35 /360).
فافترِضْ زيدًا وعمرةً زوجته: غضب زيد على زوجته فطلقها ثلاث تطليقات جملة واحدة، وهو من القائلين بأن هذا لا يقع منه إلا واحدة رجعية، وزوجته من القائلين بوقوع ثلاث تطليقات بهذا؛ فترافعا إلى القاضي؛ فلو لم يكن حكم القاضي ملزمًا حتى للمخالف، لأفضى إلى ما الله به عليم من المفاسد وعدم انتظام أمور الناس!
وهكذا افترِضْ
زيدًا وبكرًا جاره: باع زيد داره من ثالث، وزيد من القائلين بعدم ثبوت حق الشفعة إلا للشريك؛ وجاره بكر من القائلين بثبوت حق الشفعة للجار أيضًا؛ فترافعا إلى القاضي؛ فلو لم يكن حكم القاضي ملزمًا حتى للمخالف، ما ذا أفضى إليه؟
ولكن
إلزام القاضي برأي مخصوص على المَقضيّ له والمَقضيّ عليه وإنْ خالف الرأي الذي يتبعانه، إنما يتوجه في القضية المُعيَّنة التي جاءت إليه، وليس لجميع رعية البلاد. فقد صرح ابن تيمية أن القاضي ليس له حق في إلزام العالِم أن لا يعمل ولا يفتي إلا بالقول الذي يوافق مذهبه (أي مذهب القاضي)؛ بل القاضي ليس في هذا إلا واحدًا من المسلمين، يتكلم ويناظر بالحجة والاستدلال. أما الإلزام بمجرد قوله من حيث هو قاض، فليس له ذلك إلا في القضية المعينة التي جاءت إليه؛ مثل ميّت مات ويتنازع ورثته في تقسيم تركته، فإذا حكم القاضي بينهم اتباعًا لأحد من أقوال المجتهدين، لزم المتخاصمين حكمُه وليس لأحد منهم أن يقول: "أنا لا أرضى بهذا الحكم حتى يحكم بيننا بقول الأحناف". فهذا الإلزام بمجرد قوله هو من حق القاضي، ولكن بالنسبة للمتخاصمين فقط؛ وليس له حق إلزام جميع الناس ـ خصوصًا العلماء منهم ـ العمل بالقول الذي يرضاه هو (انظر : مجموع الفتاوى 35/360). فهذا هو حال القاضي المجرد (وهو الذي بيده السلطة القضائية): له إلزام المتخاصمين (مع الاختلاف الذي ذُكِر آنفًا حول المَقضيّ له)، وليس له حق إلزام جميع الناس ـ خصوصًا العلماء منهم ـ العمل برأي واحد من جملة الآراء الموجودة.

وأما السؤال المطروح في هذا البحث، فهو متعلق بإلزام جميعَ رعية البلاد بالعمل برأي متعين من جملة الآراء الموجودة، وإن خالف الرأيَ الذي يتبعه البعض منهم. وهذا السؤال، إن توجَّه بالنسبة لوليّ الأمر (وهو الذي بيده السلطة التنفيذية)، فلِأَنّ وليّ الأمر له موظّفات وتصرفات ليست للقاضي المجرد. انظر في ذلك ما كتبه القرافي في كتابه الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام (تحت الجواب عن السؤال الرابع، وعن السؤال الخامس والعشرين، وعن السؤال الثالث والثلاثين).

-
الملاحظة الثانية: السؤال المطروح في هذا البحث متعلق بالاجتهاد الانتقائي:

والاجتهاد الانتقائي هو اختيار أحد آراء المجتهدين الموجودة في المسألة والمنقولة إلينا نقلًا صحيحًا، إذا كان للاختلاف في هذه المسألة مساغ، ترجيحًا لهذا الرأي على غيره رعايةً للمصلحة الشرعية العامة (كتب معنى هذا : القرضاوي في كتابه: الاجتهاد المعاصر بين الانضباط والانفراط، صـ24).

-
الملاحظة الثالثة: هذا السؤال منحصر فيما فيه اختلاف تنوُّع، وفي ما اختٌلِف فيه اختلافَ تضادّ ولكن للاختلاف فيه مساغ:

فأما إذا كانت المسألة مختلفًا فيها بين المجتهدين اختلافَ تضادّ ولكن وضح فيها أيّ الآراء خطأ، فهذا خارج عن السؤال المطروح في هذا البحث، لأنه من الطبيعي أن لا يكون لولي الأمر في هذه الصورة حق إلزام رعيته أن يعملوا بالقول الخطأ.

وذلك مثل مسألة حكم متروك التسمية عمدًا: فإن الأحناف قالوا إن قول الشافعي هنا بيِّن الخطأ؛ قال المرغيناني الحنفي: "ولهذا قال أبو يوسف والمشايخ رحمهم الله: إن متروك التسمية عامدًا لا يسع فيه الاجتهاد، ولو قضى القاضي بجواز بيعه لا ينفذ (...)" (الهداية 2/419 كتاب الذبائح).

ومثال آخرهو ما قال ابن قدامة في مسألة شرب قدر غير مسكر من كحول مصنوع من غير العنب والتمر: فإنه قال ما معنا : إنّ رأي أبي حنيفة وأبي يوسف (القائلين بجواز شرب هذا القدر للتَقَوِّي) هنا بيّن الخطأ، فيقام الحد حتى على من شرب هذا معتقدًا حلّه؛ وليس هذا الرأي مثل رأي أبي حنيفة في مسألة النكاح بلا ولي (انظر : المغني 12/ 439-440).

ومثل هذا يوجد عند كل مجتهد؛ فما من أحد إلا ويُؤخَذُ من قوله ويُرَدُّ عليه، إلا النبي صلى الله عليه وسلم. صحيح أن للمجتهد أجرًا في هذه الصورة أيضًا، ولكن يجب أن تودع نتيجة اجتهاده، لأن المسألة ليست مِن ما للاختلاف فيه مساغ. فهذا النوع من الآراء خارج عن نطاق سؤالنا هذا.

فالسؤال المطروح في هذا البحث إنما هو بالنسبة للآراء التي يكون الصوابَ واحدٌ منها، ولكن للاختلاف في المسألة مساغ...
وذلك مثل حكم اللعب بالشطرنج: فبعض الشوافع يقولون إن اللعب بهذا جائز طالما لا يمنع من أداء الواجبات من حقوق الله ومن حقوق العباد، بينما يقول الأحناف وغيرهم: إنه مكروه على وجه التحريم في حد ذاته. قال المرغيناني: "ويكره اللعب بالشطرنج والنرد والأربعة عشر وكل لهو، لأنه إن قامر بها فالميسر حرام بالنص وهو اسم لكل قمار، وإن لم يقامر بها فهو لهو وعبث وقال عليه السلام: "لهو المؤمن باطل إلا ثلاثة تأديبه لفرسه ومناضلته عن قوسه وملاعبته مع أهله""؛ ثم قال في شأن الشطرنج: "ولأنه نوع لعب يصد عن ذكر الله وعن الجمع والجماعات فهو حرام لقوله عليه السلام: ما ألهاك عن ذكر الله فهو ميسر" (الهداية 2/459 كتاب الكراهية)  . ومع ذلك فإن المرغيناني نفسه قال في موضع آخر: "فأما مجرد اللعب بالشطرنج فليس بفسق مانع من الشهادة، لأن للاجتهاد فيه مساغًا" (الهداية 2/146 كتاب الشهادة).

ومن هذا الباب جميع المسائل التي أيّد فيها فقهاء كل مذهبٍ رأيًا متعينًا من جملة الآراء الموجودة، وهو عامةً رأيُ مذهبهم، ولكن صرحوا مع ذلك أن القاضي إذا حكم بالقول الآخر نفذ قضاؤه، لأنّ للاختلاف في المسألة مساغًا. فالسؤال المطروح في هذا البحث متعلق بهذا النوع من المسائل: التي اختلف فيها السلف الصالح ويكون الصواب فيها واحدًا، ولكن للاختلاف فيها مساغ.
وقد صرح بذلك ابن عبد السلام إذ قال ما قد ذكرناه عنه: "ولو أمر الأمير أو الحاكم إنسانًا بما يعتقد الأمير حِلّه والمأمور تحريمه ، فهل له فعله نظرًا إلى رأي الآمر؟ أو يُمتنَعُ فعله نظرًا إلى رأي المأمور؟ فيه خلاف! وهذا مختص بما لا ينقض حكم الآمر به. فإن كان مما ينقض به فلا سمع ولا طاعة" (قواعد الأحكام في إصلاح الأنام 2/273).

وهكذا يتوجه السؤال المطروح في هذا البحث إلى المسائل التي يكون جميع الطرق المنقولة فيها صحيحةً وصوابًا، والتي يقال عنها: "فيها اختلاف تنوُّع"/ "في السُنَّة وُسْعَة"؛ مثل:
ـ صيغ التشهد المختلفة؛
ـ عدد تكبيرات صلاة العيد (لدى أحمد بن حنبل: حكاه ابن مفلح في الفروع؛ ولدى الألباني: السلسلة الصحيحة 6/1264)؛
ـ الترجيع أوعدم الترجيع في الأذان (لدى ابن القيم: زاد المعاد 1/275)؛
ـ إفراد أوتثنية كلمات الإقامة (سوى كلمة "قد قامت الصلاة") (لدى ابن القيم: زاد المعاد 2/390)؛
ـ وغير ذلك.

-
الملاحظة الرابعة: السؤال المطروح في هذا البحث منحصر فيما إذا وُجِدَتْ حقًا مصلحةٌ شرعية عامة، وليس لمصلحة ولي الأمر الشخصية أو العائلية:

وهذا واضح. وقد صرح به مصطفى أحمد الزرقاء كشرطٍ حين أجاب عن السؤال بــ"نعم".

-
الملاحظة الخامسة: إذا كان الجواب عن السؤال المطروح في هذا البحث: "نعم"، فليس معنى ذلك: إبطالَ بقية آراء المجتهدين:

أجل: إذا كان الجواب "نعم"، فالإلزام برأي متعين ليس إبطالاً لكون بقية آراء المجتهدين في المسألة مُوصِلةً إلى المقصود، أي لكون بقية الآراء من ما يرضى به الله تعالى في الجملة. إنما هو نهْي عن سلوكها (أي عن العمل بها) لعارضٍ، وهو  مصلحة الأمة الزمنية أو المكانية بالنسبة للواقع الذي تعيشها.

-
الملاحظة السادسة: بدا لي ـ والله أعلم ـ أن المسائل الخلافية أربعة أنواع بالنسبة لسلطة ولي الأمر وبالنسبة لأثر هذه المسائل على المجتمع؛ وأن السؤال المطروح في هذا البحث متوجِّهٌ إلى واحد منها فقط (وهو النوع د)، إذ الجواب واضح بالنسبة لغيره منها:

وهذه الأنواع الأربعة كما يلي:
-
النوع الف) مسائل خلافية تكون من باب المعاملات، وتتعلق مباشرةً بسلطة ولي الأمر: مثل معاهدة بلاد الكفر وعقد الجزية؛

فهذه المسائل، من الواضح أنّ للأمير حقَ إلزام رعيته أن لا يعملوا فيها إلا بقول متعين، وهو القول الذي نفذه في ممارسة سلطته، وأنه يَلزَم رعيتَه إطاعتُه في ذلك:

مثلًا: عقْدُ الهدنة مع العدو لمدة أكثر من عشر سنين: يجوز هذا عند الأحناف والحنابلة، ولا يجوز عند الشوافع. فإذا عقد الأمير عقْد هدنة مع قوم عدوٍ لمدة عشرين سنة مثلًا، لزم جميع رعيته طاعته في هذا، ولا يجوز لأحد منهم أن يتعرض لهذا القوم بعد مضي عشر سنين قائلًا: "أنا أوافق مذهب الشافعي، الذي فيه أنه لا يجوز عقد الهدنة لأكثر من عشر سنين". فلا يجوز لأحد منهم أن يقول مثل هذا القول، لأن هذه الأمور تتعلق مباشرةً بأهلية وليّ الأمر.

وهكذا، إذا عقد الأمير عقد الذمة مع قوم مشركين (غير عرب مثلًا)، فإنه من الطبيعي أن لا يبقى لأحد من رعيته بعدئذ أن يتعرض لهؤلاء المشركين قائلًا: "أنا أوافق مذهب الشافعي، الذي فيه أنه لا يجوز عقد الذمة مع قوم مشركين"، بل إذا عقد الأمير هذا العقد اتباعًا لقول الأحناف والمالكية، لزم جميع رعيته طاعته فيه، وإن كانت المسألة مختلفًا فيها.

مثال آخر: هل يجب على الأمير أن يقسم الأرض المفتوحة عنوةً بين الغازين، أو يُخيَّر بين تقسيمها بينهم وبين تركها بلا قسمة، حسبًا للمصلحة؟ فيه خلاف بين المجتهدين: بعضهم من الرأي الثاني، وبعضهم كالشافعي من الرأي الأول: يرون أن الأرض مثل المنقولات: إذا تَحصَّلَ عليها المسلمون عنوةً اقتسموها. والواقع أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قسّم شطر أرض خيبر، ولم يقسم الشطر الآخر، كما لم يُقسّم أرض مكة. فأصحاب الرأي الثاني يستدلّون بهذا. ولكن يجيب الشوافع عن هذا بأنّ مكة فُتِحَتْ صلحًا لا عنوةً وبأنّ خيبر فُتِحَ شطرها صلحًا وفُتِحَ شطرها عنوةً. فللاختلاف في المسألة مساغ.
ولكن إذا فتح الأمير أرضًا عنوةً ونفذ رأي الأحناف والحنابلة فلم يقسمها بين الغازين، ليس لأحد من رعيته حق في أن يتطلب من الأمير أن يُعطَى هو حصة من هذه الأرض محتجًّا بأنه من الرأي الآخر... فها هو عمر رضي الله عنه لما فتح العراق، تطلّب منه بلال رضي الله عنه وآخرون أن يقسم أرضها بينهم؛ ولكن أبى عمر رضي الله عنه من تقسيم أرض العراق ولم يعط منها حصة لأحدٍ حتى لبلال وذويه.

-
النوع ب) مسائل خلافية تكون من باب العبادات أو العادات، وتتعلق بالناحية الشخصية المحضة؛

فهذه المسائل، من الواضح أنّه ليس للأمير حق إلزام جميع رعيته أن لا يعملوا فيها إلا بقول متعين من بين الأقوال الموجودة :

وهذا مثل طرق بعض أفعال الوضوء وبعض أعمال الصلاة (مثل رفع اليدين قبل الركوع وبعده، أومثل القراءة خلف الإمام) وبعض أعمال الحج.

ومثل أيضًا ـ من باب العادات ـ لُبُس إزار أوسراويل تصل إلى أسفل الكعبين ولكن بغير خيلاء.

اختلف في هذه المسائل المجتهدون، بسبب أن النصوص الواردة فيها ليست قطعية الدلالة. وليس للأمير أن يلزم جميع رعيته أن يعملوا في مثل هذه المسائل بقول متعين (مثلًا بقول الشوافع  في مسألة رفع اليدين أو بقول الأحناف في مسألة التأمين بالجهر)؛ بل عليه أن يترك رعيته يعملون كل حسب اجتهاده أوحسب قول المجتهد الذي يتبعه.

-
النوع ج) مسائل خلافية تكون من باب العبادات ولكن ورد التنصيص على قصد الشارع فيها إلى توحيد المسلمين، وهذا بسبب أثرها القوي على اجتماع كلمة الأمة أو افتراقها؛ وهي العبادات الجَماعية؛

فهذه المسائل، من الواضح أنّ على الرعية إطاعة الأمير ولزوم الجماعة فيها، وبالتالي أنّ للأمير حق إلزام رعيته أن لا يعملوا فيها إلا بقول متعين، وهو القول الذي نفَّذه هو أو قاضي قضاة البلاد:

كان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يرى أن السُنَّة هي قصر الصلاة بمنىً؛ وكان الخليفة عثمان رضي الله عنه يُتِمّ الصلاة بمكة بعد أن قدم إليها، وبمنىً بعد أن قضى مناسكه (فتح الباري 2/737). فقيل ذلك لابن مسعود رضي الله عنه، فاسترجع ثم قال: "صليتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنىً ركعتين، وصليتُ مع أبي بكر الصديق بمنىً ركعتين، وصليتُ مع عمر بن الخطاب بمنىً ركعتين. فليت حظي من أربع ركعات ركعتان متقبلتان!" (رواه البخاري رقم 1034 و1574 ، ومسلم رقم 695).
ومع ذلك فإن عبد الله صلى أربعًا [ أي خلف عثمان بمنىً ]؛ فقيل له: "عِبْتَ على عثمان ثم صليتَ أربعًا؟" فقال: "الخلاف شر!" (رواه أبوداود رقم 1960).
وهذا لأنه ظن أن اجتهاد عثمان هذا خطأ، ولكنه أيضًا محتمل للصواب، لكونه مبنيًّا على اجتهاد سائغ. فإن عروة كان يقول عن عمل عائشة رضي الله عنها (التي كانت تتم دائمًا في سفرها، على الأقل بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم): "إنها تأولت كما تأول عثمان": رواه البخاري رقم 1040 ، ومسلم رقم 685.
وفي قول ابن مسعود "الخلاف شر"، ليست اللام للجنس، بل للعهد: فقوله "الخلاف شر" ليس معناه: "جنس الخلاف شر"، بل معناه: "هذا النوع من الخلاف شر"، وهو الخلاف عن الأمير بترك الاقتداء به في عبادة جَماعية مثل الصلاة (والله أعلم). فإنّ  ابن مسعود نفسه كان يأمر بأداء الصلاة خلف الأمراء حتى إذا أَخَّروها إلى وقتها المكروه: قال رضي الله عنه: "إنه ستكون عليكم أمراء يؤخرون الصلاة عن ميقاتها ويخنقونه إلى شَرَق الموتى؛ فإذا رأيتموهم قد فعلوا ذلك فصلوا الصلاة لميقاتها واجعلوا صلاتكم معهم سبحة" (رواه مسلم رقم 534). قال النووي في شرحه: "لتحرزوا فضيلة أول الوقت، وفضيلة الجماعة، ولئلا تقع فتنة بسبب التخلف عن الصلاة مع الإمام وتختلف كلمة المسلمين" (شرح مسلم للنووي). وورد أيضًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم استحباب أداء الصلاة خلف الأمراء إذا أَخَّروها إلى وقتها المكروه؛ فإنه ورد في حديث قبيصة: "يكون عليكم أمراء من بعدي يؤخرون الصلاة؛ فهي لكم وهي عليهم؛ فصلوا معهم ما صلوا القبلة" (رواه أبوداود رقم 434). وفي الباب عن أبي ذر (رواه مسلم رقم 648) وعبادة بن الصامت (رواه أبوداود رقم 433).

وهكذا فإنّ هناك آراء مختلفة حول مسألة اختلاف المطالع، وللاختلاف في المسألة مساغ. ولكن ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في بدء شهر رمضان وفي التعييد أنه قال: "الصوم يوم تصومون، والفطر يوم تفطرون، والأضحى يوم تضحون" (رواه الترمذي رقم 697، وابن ماجة رقم 1660). قال السندي في شرحه: "والظاهر أن معناه أن هذه الأمور ليس للآحاد فيها دخل وليس لهم التفرد فيها؛ بل الأمر فيها إلى الإمام والجماعة، ويجب على الآحاد اتباعهم للإمام والجماعة..." (حاشية السندي على ابن ماجة). فعلى هذا إذا نفذ الأمير في المسألة رأي الشوافع القائلين باعتبار اختلاف المطالع، وأعلن بعدم بدء شهر رمضان في ذلك اليوم بسبب أن الهلال لم يُرَ في بلاده، فليس لأحد من رعيته حق في أن يبدأ شهر رمضان هو وحيدًا، محتجًّا بأن الهلال قد رُئِيَ في بلاد أخرى وقائلًا: "أنا في هذه المسألة على رأي الأحناف المتقدمين، القائلين بعدم اعتبار اختلاف المطالع". بل إذا بدأ الأمير شهر رمضان، بدأه معه، وترك العمل بالرأي الذي يظنه راجحًا.

وهكذا الأمر في جميع العبادات الجَماعية.

يلاحظ أن أداء الصلاة بالجماعة وإن كانت عبادة جَماعية  إلا أن في هذه العبادة أجزاء من النوع ج، وأجزاء أُخر من النوع ب.
فمثلًا عدد التكبيرات الزائدة في صلاة العيد: من النوع ج؛ فإذا صلى إمام المسجد صلاة العيد وكان من رأي الشوافع في عدد التكبيرات، لزم جميع المقتدين ـ بشمول الأحناف منهم ـ الاقتداء به في عدد التكبيرات، لأنه ما جُعِل الإمام إلا ليؤتم به، وهذا الأمر له علاقة بصورة الاقتداء بالإمام، والله أعلم.
وأما مسألة رفع اليدين، و مسألة التأمين بالجهر أو بالسر، و مسألة تلاوة المقتدي الفاتحة في ركعة جهرية، فهي من النوع ب؛ فإذا صلى إمام المسجد صلاة المغرب مثلًا، لم يلزم جميع المقتدين الاقتداء به في مثل هذه المسائل.

وهكذا فالأذان والإقامة من أعمال العبادات الجَماعية؛ ومع هذا يشرع إفراد أو تثنية كلمات الإقامة (سوى كلمة "قد قامت الصلاة"، فإنها لم يثبت إفرادها).

-
النوع د) مسائل خلافية تكون من باب المعاملات، وليس مثل مسائل النوع الف (التي تتعلق مباشرةً بسلطة ولي الأمر)، ولكن لها أثر قويّ على المجتمع؛ وإذا سومح في أزمان بوجود جماعات مختلفة في مجتمع واحد تعمل بآراء مختلفة في هذه المسائل، فمن الصعب في أزمان أُخَر (ومنها هذا الزمن) بناءُ وإدارةُ مجتمع واحد مع وجود جماعات مختلفة تعمل بآراء مختلفة في هذه المسائل:

فههنا يتوجه السؤال المطروح في هذا البحث.

وهذا مثل تزويج الأب بنته البالغة والباكرة برجل كفء بغير استئذانها: يجوز عند المالكية والشوافع والحنابلة (وإن كان خلاف المستحب) ويصح النكاح؛ ولا يجوز هذا عند الأحناف ويبقى  النكاح معلقًا (في رأيٍ). وللاختلاف في المسألة مساغ، كما هو معروف في موضعه. فهل لولي الأمر حق إلزام رعيته أن لا يعملوا في هذه المسألة إلا بقول الأحناف، وذلك تبعًا لما يظنه من المصلحة العامة بالنسبة لحال الرعية؟ وهل يجب على الرعية طاعته في ذلك؟

وهكذا، يكون بعض البيوع (مثل بيع عشرة أطنان من الحديد بعشرين طن من الحديد) جائزًا لدى بعض المجتهدين وحرامًا لدى البعض الآخر: فهل يمكن لِأمير دار الإسلام منع رعيته من العمل بالرأي الفلاني في ما يتعلق بهذه المعاملات؟

-
فالسؤال بالتلخيص هو:
إذا كانت المسألة اختلف فيها المجتهدون، وكان للاختلاف فيها مساغ أوكانت في السُنَّة وُسْعَة بالنسبة إليها، وكانت المسألة من النوع د الذي له أثر قويّ على المجتمع ، هل لوليّ الأمر حق إلزام رعيته أن لا يعملوا فيها إلا بالقول الفلاني، وذلك تبعًا لما يظنه من المصلحة الشرعية بالنسبة لحال رعيته كلها؟

-
قال عز الدين بن عبد السلام:

"ولو أمر الأمير أو الحاكم إنسانًا بما يعتقد الأمير حِلّه والمأمور تحريمه، فهل له فعله نظرًا إلى رأي الآمر؟ أو يُمتنَعُ فعله نظرًا إلى رأي المأمور؟ فيه خلاف! وهذا مختصّ بما لا يُنقَض حكم الآمر به. فإن كان مما ينقض به فلا سمع ولا طاعة" (قواعد الأحكام في إصلاح الأنام 2/273، قاعدة فيمن تجب طاعته ومن تجوز ومن لا تجوز).

كما ترى، فإنه لم يصرح بمحتوى هذا الاختلاف، بل اكتفى بالإشارة إلى وجوده.

-
أما ابن تيمية، فأجاب عن السؤال المطروح في هذا البحث بــ: "لا".

انظر: مجموع الفتاوى، المجلد 3 صـ239-240؛ المجلد 30 صـ79-81؛ المجلد 35 صـ357-388). (وانظر أيضًا: .مجموع الفتاوى، المجلد 27 صـ301)

"فسئل رحمه الله عمن ولي أمرا من أمور المسلمين ومذهبه لا يجوز ‏[شركة الأبدان‏]‏: فهل يجوز له منع الناس‏؟‏‏
فأجاب‏:‏ ليس له منع الناس من مثل ذلك ولا من نظائره مما يسوغ فيه الاجتهاد، وليس معه بالمنع نص من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا ما هو في معنى ذلك. لا سيما وأكثر العلماء على جواز مثل ذلك، وهو مما يعمل به عامة المسلمين في عامة الأمصار ‏.
وهذا كما أن الحاكم ليس له أن ينقض حكم غيره في مثل هذه المسائل، ولا للعالم والمفتي أن يلزم الناس باتباعه في مثل هذه المسائل"
(مجموع الفتاوى 30/79).

وقال حول مسألة النهي عن شد الرحال لزيارة قبر: هل هو مشروع أم بدعة:
"وليس للحاكم أن يحكم بأن هذا أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن هذا العمل طاعة أو قربة، أو ليس بطاعة ولا قربة، ولا بأن السفر إلى المساجد والقبور وقبر النبي صلى الله عليه وسلم يشرع، أو لا يشرع! ليس للحكام في هذا مدخل إلا كما يدخل فيه غيرهم من المسلمين؛ بل الكلام في هذا لجميع أمة محمد صلى الله عليه وسلم. فمن كان عنده علم تكلم بما عنده من العلم. وليس لأحد أن يحكم على عالم، بإجماع المسلمين .
بل يبين له أنه قد أخطأ؛ فإن بين له بالأدلة الشرعية التي يجب قبولها أنه قد أخطأ وظهر خطؤه للناس، ولم يرجع بل أصر على إظهار ما يخالف الكتاب والسنة والدعاء إلى ذلك، وجب أن يمنع من ذلك ويعاقب إن لم يمتنع.
وأما إذا لم يبين له ذلك بالأدلة الشرعية، لم تجز عقوبته باتفاق المسلمين ولا منعه من ذلك القول ولا الحكم عليه بأنه لا يقوله إذا كان يقول إن هذا هو الذي دل عليه الكتاب والسنة كما قاله فلان وفلان من علماء المسلمين"
(مجموع الفتاوى، المجلد 35 صـ382-383)
.
"وولي الأمر إن عرف ما جاء به الكتاب والسنة، حكم بين الناس به .
وإن لم يعرفه وأمكنه أن يعلم ما يقول هذا وما يقول هذا حتى يعرف الحق، حكم به.
وإن لم يمكنه لا هذا ولا هذا
، ترك المسلمين على ما هم عليه، كل يعبد الله على حسب اجتهاده؛ وليس له أن يلزم أحدا بقبول قول غيره وإن كان حاكما"
(مجموع الفتاوى، المجلد 35 صـ387-388).

وهذا يوافق ما قاله ابن قدامة في أن ولي الأمر ليس له حق إلزام القضاة بأن لا يحكموا إلا حسب رأي معين من بين آراء المجتهجين:
"ولا يجوز أن يقلد القضاء لواحد على أن يحكم بمذهب بعينه. وهذا مذهب الشافعي، ولم أعلم فيه خلافا. لأن الله تعالى قال: {فاحكم بين الناس بالحق}؛ والحق لا يتعين في مذهب، وقد يظهر له الحق في غير ذلك المذهب" (المغني 13/628).

وأما قول ابن تيمية التالي:
"لا غنى لولي الأمر عن المشاورة؛ فإن الله تعالى أمر بها نبيه صلى الله عليه وسلم (...).
وإذا استشارهم: فإنْ بيّن له بعضهم ما يجب اتباعه من كتاب الله أو سنة رسوله أو إجماع المسلمين، فعليه اتباع ذلك؛ ولا طاعة لأحد في خلاف ذلك وإن كان عظيما في الدين والدنيا.
(...). وإن كان أمرا قد تنازع فيه المسلمون ، فينبغي أن يستخرج من كل منهم رأيه ووجه رأيه : فأي الآراء كان أشبه بكتاب الله وسنة رسوله عمل به(...):
ومتى أمكن في الحوادث المشكلة معرفة ما دل عليه الكتاب والسنة، كان هو الواجب؛
وإن لم يمكن ذلك لضيق الوقت أو عجز الطالب أو تكافؤ الأدلة عنده أو غير ذلك، فله أن يقلد من يرتضي علمه ودينه. هذا أقوى الأقوال
" (مجموع الفتاوى المجلد 28 صـ386-388).
فهذا القول منه: متعلق ب
النوع الف المذكور فوق: أي المسائل الخلافية التي تكون من باب المعاملات وتتعلق مباشرةً بسلطة ولي الأمر وبسياسته للبلاد.

-
وأما مصطفى أحمد الزرقاء ، فأجاب عن السؤال المطروح هنا بــ: "نعم، ولكن بشرط أن يكون عن مشاورة لأهل العلم الراسخين وغير المحابين".

قال:
"ونصوص الفقهاء في مختلف الأبواب تفيد أن السلطان إذا أَمَرَ بأمرٍ في موضوعٍ اجتهادي – أي : قابل للاجتهاد، غير مصادم للنصوص القطعية في الشريعة – ، كان أمره واجبَ الاحترام والتنفيذ شرعاً. فلو مَنَعَ بعض العقود لمصلحةٍ طارئةٍ واجبة الرعاية، وقد كانت تلك العقود جائزة نافذة شرعاً، فإنها تصبح بمقتضى منعه باطلة ، وموقوفة على حسب الأمر" (المدخل الفقهي العام، 1/215، الباب الثالث، الفصل الرابع عشر).

وقال أيضاً:
"بقي أن يقال : إنَّ إعطاء هذه الصلاحية لولي الأمر العام يؤدي إلى إمكان أن يتصرف هذا الحاكم بحسب هواه في تغيير الأحكام الاجتهادية وتقييدها بأوامر أو قوانين زمنية يصدرها، وقد لا يهمه موافقتها لقواعد الشريعة، وقد يكون هو جاهلاً أو فاسقاً لا يبالي تهديم الشريعة؛ فكيف تجب طاعته شرعاً في هذه الأوامر؟

والجواب: أنَّ هذه النصوص الفقهية مفروضة في إحدى حالتين:
إما أن يكون الحاكم نفسه من أهل العلم والتقوى والاجتهاد في الشريعة، كما كان في الصدر الأول من العهد العباسي.
وإما ألا يكون عالماً مجتهداً؛ وعندئذٍ لا يكون لأوامره هذه الحرمة الشرعية، إلا إذا صدرت بعد مشورةِ أهل العلم في الشريعة وموافقتهم"
(أيضًا، 1/221-222).

وقال أيضًا:

"قلنا: إنَّ ولي الأمر الذي ليس بعالم مجتهد: لا يكون لأوامره وزن شرعي إلا إذا صدرت بعد مشورة أهل العلم بالشريعة وموافقتهم.
وها هنا تبرز مشكلة أخرى، وهي: أنَّ موافقة أهل العلم قد تحصل ممن يخضعون للحكام أنفسهم، ويمالئونهم رغبةً ورهبةً، ولا يتجاسرون أن يردوا للحاكم طلباً أو يعصوا له أمراً؛ فهؤلاء لا قيمة لموافقتهم حتى لو كانوا ذوي علم. وقد تأخذ هذه المشكلة صورة أخرى، وهي: أن يعيِّن أولو الأمر لبعض المناصب المهمة شرعاً - كالإفتاء -: مَن ليسوا علماء راسخين في الشريعة، أو مَن يأتمرون بأمر الحاكم خوفاً وطمعاً .
فقد شهدنا بأم أعيننا، وسمعنا في هذا العصر وقرأنا عن أمثال هؤلاء المفتين الرسميين وذوي الرئاسات والمناصب العلمية الدينية من الفتاوى والتصريحات التي يعلنونها وينشرونها باسم الدين الإسلامي استجابة منهم لرغبات بعض الحكام الفاسدين المستبدين الذين يملكون سلطة عزلهم من مناصبهم والاستبداد بأرزاقهم، وفي تلك الفتاوى والتصريحات العجب العجاب.
فهؤلاء المرتزقة من العلماء لم يعودوا يحِسّون بما يفعل الحاكم الفاسد من: استخفاف بقواعد الإسلام، واستغلال لحكمه وسلطته في سبيل تحقيق أهوائه ومطامحه الاستبدادية الخبيثة، ومن تسخيره أجهزة الدولة ووسائلها الإعلامية للدعايات الكاذبة المضللة تغطية لانحرافاته، ومن فتحه مجالات إضاعة الأموال العامة وسرقتها لمؤيديه، وإطلاقه حرية الفسق والفتنة الأخلاقية للملاحدة والانحلاليين من رجال ونساء لإلهاء الناس عن مفاسد حكمه، وخنق كل صوت يأمر بالمعروف أو ينهى عن منكر . هذا واقع شهدناه في هذا العصر، ولا تزال أمثلته قائمة في بعض البلاد.
فأمثال هؤلاء الحكام، ما قيمة أمرهم ونهيهم باسم الإسلام؟
وأمثال أولئك المرتزقة من علماء الدين الذين ينافقون لهم في سبيل الدنيا، ما قيمة فتواهم وتصريحاتهم في تأييد تصرفاتهم ورغباتهم؟"
(أيضًا، 1/222-223).

-
وهذا الرأي يستلزم أن على محاكم البلاد أن لا تحكم إلا بهذا الرأي الذي نفذ رسميًا. وهذا ما صرحت به مجلة الأحكام العدلية: "وكذلك لو صدر أمر سلطاني بالعمل برأي مجتهد في خصوص، لما أن رأيه بالناس أرفق ولمصلحة العصر أوفق، فليس للقاضي أن يعمل برأي مجتهد آخر مناف لرأي ذلك المجتهد؛ وإذا عمل لا ينفذ حكمه" (المادة 1801).

-
أثران قد يؤيدان رأي مصطفى أحمد الزرقاء المذكور فوق والذي يجيب عن هذا السؤال بـ: "نعم، بشرط أن يكون عن مشاورة لأهل العلم الراسخين وغير المحابين":

ما فعله الخليفة عثمان رضي الله عنه:

لما وقع افتراق شديد بين بعض التابعين حول بعض القراءات، وشاهده حذيفة رضي الله عنه، شكا ذلك إلى الخليفة عثمان رضي الله عنه. فألزم عثمان المسلمين أن لا يتلوا من القراءات إلا ما يسعه رسم المصاحف التي نشرها؛ وأمر المسلمين أن يحرقوا ما عندهم من المصاحف القديمة.
وكان عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه قرأ بعض السور من فم النبي صلى الله عليه وسلم مع ما لها من قراءات مختصة. فكان بعض هذه القراءات لم يعُد يمكن تلاوتها حسبًا للمصحف العثماني. فأبى ابن مسعود رضي الله عنه أن يدع قراءاته التي تعلمها من النبي صلى الله عليه وسلم وأن يحرق مصحفه.

قال عبد الله: "يا أهل العراق، اكتموا المصاحف التي عندكم وغلّوها! فإن الله يقول: {ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة}؛ فالقوا الله بالمصاحف!" (رواه الترمذي رقم 3104 كتاب تفسير القرآن).
قال شقيق: قال عبد الله: "{ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة}". وقال: "على قراءة من تأمروني أن أقرأ؟ فلقد قرأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعًا وسبعين سورة؛ ولقد علم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أعلمهم بكتاب الله؛ ولوأعلم أن أحدًا أعلم مني لرحلت إليه" ؛ قال شقيق : "فجلست في حلق أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فما سمعت أحدًا يرد ذلك عليه ولا يعيبه" (رواه مسلم رقم 2462).

ومع أنه كان قرأ من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم واعترف الصحابة بأعلميّته في هذا المجال، فإن إباءه إطاعةَ أمرِ الخليفة وتحريق مصحفه، كرهه عدة من الصحابة: جاء في آخر رواية الترمذي هذه: "قال الزهري:  فبلغني أن ذلك كرهه من مقالة ابن مسعود رضي الله عنه رجال من أفاضل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم" (رواه الترمذي رقم 3104 كتاب تفسير القرآن).

فهذه القراءات الثابتة من النبي صلى الله عليه وسلم، كانت التلاوة بكل منها جائزةً. فكان في السُنَّة وُسْعَة بالنسبة إليها. ومع ذلك فقد منع الخليفة عثمان رضي الله عنه عن التلاوة ببعضها، وذلك لمصلحة شرعية.

-
وربما قال هنا أحد:

"إن واقعة المصاحف العثمانية مختلفة عن ما نحن بصدده؛ فإن بعض العلماء قالوا: "إن القراءات التي كان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه متمسكًا بها كانت قد نسختها العرضة الأخيرة ولكن لم يعلمه ابن مسعود. بينما كانت القراءاتُ التي كان زيد بن ثابت رضي الله عنه يقرؤها مطابقةً للعرضة الأخيرة. فلهذا أمر عثمان رضي الله عنه بكتابة  قراءات زَيدِ في المصاحف. ولهذا كره رجال من الصحابة إباء ابن مسعود من تحريق مصحفه وإباءه من الرجوع إلى المصحف العثماني الذي فيه الأحرف المبقَية في العرضة الأخيرة. وليست هكذا المسألة التي نحن بصددها".

ولكن هذا ليس بصحيح.

فقد روى أبوظبيان أن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "أي القراءتين تعُدُّّون أول؟" قالوا: "قراءة عبد الله"؛ قال: "لا، بل هي الآخرة! كان يُعرَض القرآنُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم كل عام مرة؛ فلما كان العام الذي قبض فيه عُرِض عليه مرتين، فشهده عبد الله، فعلم منه ما نسخ منه وما بدل" (رواه أحمد رقم 3422).
وروى مجاهد أن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "أي القراءتين كانت أخيرًا: قراءة عبد الله، أوقراءة زيد؟" قال مجاهد: قلنا: "قراءة زيد"؛ قال: "لا، إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يَعرِض القرآنَ على جبرائيل كل عام مرة؛ فلما كان في العام الذي قبض فيه عرضه عليه مرتين، وكانت آخر القراءة قراءة عبد الله" (رواه أحمد رقم 2494، وإسناده ضعيف).
معنى قول ابن عباس هذا، هو أن قراءة عبد الله لم تنسخها العرضة الأخيرة. وقد صرّحتْ بهذا روايةٌ عن عبد الله نفسِه، رُوِيَ فيها أنه قال: "وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يَعارض بالقرآنَ في كل رمضان. وإني عرضْتُ في العام الذي قبض فيه مرتين، فأنبأني أني محسن. وقد قرأت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين سورة" (رواه أحمد رقم 3845 ، وإسناده ضعيف).

فنلاحظ أنّ اختلاف القراءات في النص القرآني هو اختلاف تنوع، وأن الخليفة عثمان رضي الله عنه أمر جميع الرعية بالاقتصار على العمل ببعض من الطرق الثابتة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنعهم عن العمل ببقية الطرق وإن كانت ثابتة أيضًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولعل هذه المسألة من النوع ج أو من النوع د (وإن لم تكن هي من باب المعاملات)؛ فطالما لم تقع مشكلةٌ كان يُسمَح ببقاء كل أحد يقرأ على قراءة أستاذه؛ ولكن لما وقعت المشكلة اضطر الأمير إلى نوع من "التقنين".

وفي هذا يقول ابن القيم: "ومن ذلك [ أي ومن السياسات الجزئية التابعة للمصالح ]: جَمْعُ عثمان رضي الله عنه الناسَ على حرف من الأحرف السبعة التي أطلق لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم القراءةَ بها، لَمَّا كان ذلك مصلحةً. فلما خاف الصحابة رضي الله عنهم على الأمة أن يختلفوا في القرآن ورأوا أنَّ جَمْعهم على حرف واحدٍ أسلمَ وأبعد من وقوع الاختلاف، فعلوا ذلك ومنعوا الناس من القراءةَ بغيره. وهذا كما لوكان للناس عدة طرق إلى البيت، وكان [يعني: أصبح] سلوكهم في تلك الطرق يوقعهم في التفرق والتشتت ويطمع فيهم العدو، فرأى الإمام جَمْعهم على طريقٍ واحدٍ وتْركِ بقية الطرق، جاز ذلك؛ ولم يكن فيه إبطال لكون تلك الطرق مُوصِلةً إلى المقصود، وإن كان فيه نهْي عن سلوكها لمصلحة الأمة" (الطرق الحكمية ص 31 ).
نعم، يمكن أن يناقَش في إطلاق ابن القيم بأن ما أمر به عثمان رضي الله عنه هو ترك ستة من الأحرف السبعة والاقتصار على واحد منها فقط، فيمكن أن يُفضَّل أن يقال: ما أمر به عثمان رضي الله عنه هو ترك بعض من القراءات الثابتة والاقتصار على بعض منها وهي التي يسعها رسم مصاحف : ولهذا ما زال المسلمون يقرؤون قراءات مختلفة. ولكن ما قاله ابن القيم صحيح في الجملة: أَمَر عثمان رضي الله عنه الرعية بترك بعض من الطرق التي وردت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسألة وبالاقتصار على بعض منها، لما كان في ذلك من المصلحة الشرعية العامة.

-
ما فعله الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه:

كان زيد بن أرقم يُكبِّر على الجنائز أربع تكبيرات؛ وإنه كبَّر على جنازة خمس تكبيرات؛ فسأله عنه عبد الرحمن بن أبي ليلى فقال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبرها" (رواه مسلم رقم 957، والترمذي رقم 1023، وأبوداود رقم 3157، وغيرهم). وروي مثل هذا عن حذيفة رضي الله عنه (رواه ابن أبي شيبة والطحاوي).

قال إبراهيم:
"قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس مختلفون في التكبير على الجنائز؛ لا تشاء أن تسمع رجلا يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبر سبعًا، وآخر يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبر خمسًا، وآخر يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبر أربعًا، إلا سمعته؛ فاختلفوا في ذلك. فكانوا على ذلك حتى قبض أبو بكر رضي الله عنه.
فلما ولى عمر رضي الله عنه ورأى اختلاف الناس في ذلك، شق ذلك عليه جدًّا. فأرسل الى رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إنكم معاشر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متى تختلفون على الناس، يختلفون من بعدكم؛ ومتى تجتمعون على أمر، يجتمع الناس عليه؛ فانظروا أمرا تجتمعون عليه". فكأنما أيقظهم، فقالوا: "نِعْمَ ما رأيتَ يا أمير المؤمنين! فأشِرْ علينا." فقال عمر رضي الله عنه: "بل أشيروا أنتم علىَّ؛ فإنما أنا بشر مثلكم." فتراجعوا الأمر بينهم. فأجمعوا أمرهم على أن يجعلوا التكبير على الجنائز مثل التكبير في الأضحى والفطر أربع تكبيرات فأجمع أمرهم على ذلك"
(رواه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/495-496؛ وأشار إليه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله، باب 66: ذكر الدليل في أقاويل السلف على أن الاختلاف خطأ).

فمن الفقهاء من يقول: الأفضل عدم الزيادة على الأربع، لأنه أكثر ما روي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، و لأنه هو الذي جمع عمر رضي الله عنه عليه الناس، ومع ذلك يقول: تجوز الزيادة على أربع تكبيرات في الجنائز، لأنّ هذه الزيادة رويت أيضًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعله أحيانًا بعض الصحابة، ولأن الاختلاف الذي ورد في المسألة اختلاف تنوع.
ومن الفقهاء من يرى عدم متابعة إمام الصلاة إن زاد على أربع (انظر المغني 3/321-324.

فنرى هنا أن اختلاف عدد التكبيرات في صلاة الجنازة هو اختلاف تنوع. ونرى أن الخليفة عمر رضي الله عنه أمر جميع الرعية بالاقتصار على العمل بأَحَد من الطرق الثابتة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومَنَعَهم عن العمل ببقية الطرق وإن كانت ثابتة أيضًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك لمصلحة شرعية.

-
فهذان الأثران من هذين الخليفتين قد يؤيدان رأي مصطفى أحمد الزرقاء المذكور فوق

والله تعالى أعلم، وعلمه أتمّ وأحكم.

Print Friendly, PDF & Email